هدنة غزة.. وخلل المعادلة

 

 

 

 

أحمد الفقيه العجيلي

 

من يُتابع تاريخ الصراعات والاتفاقات في المنطقة، يلحظ أنَّ معظم الهدن السابقة- حتى حين لم يكن هناك اعتراف مُتبادل- كانت تُوقّع أو تُعلن باسم الطرفين المتحاربين، أو تُنسب إليهما بوضوح.

فإما توقيع مباشر للطرفين كما في اتفاقات أوسلو وكامب ديفيد، وإما تفاهمات غير موقعة لكنها منسوبة صراحة للطرفين، كما في تهدئات 2014 و2018 و2021 بين المقاومة والاحتلال برعاية مصر وقطر.

لكن ما جرى في التوقيع على "وثيقة السلام" في شرم الشيخ المصرية، خرج عن هذا المألوف تمامًا: وقف إطلاق نار يُعلن، وتُوقّع بنوده، بينما يغيب عن مشهد التوقيع طرفا الصراع الحقيقيان! لا حماس على الطاولة، ولا الاحتلال الإسرائيلي يوقّع رسميًا… فقط الوسطاء هم من وقّعوا، وإن كان قد سبق ذلك الإعلان عن توقيع حماس وإسرائيل على الاتفاق في مرحلته الأولى التي تتضمن تبادل الأسرى أحياءً وأمواتًا.

هي سابقة في تاريخ الحروب الحديثة أن يتولى الرعاة توقيع "وثيقة سلام" نيابة عن طرفي الصراع، وكأن الكبار يتفاهمون بينما يُقصى أصحاب الأرض من المشهد. لكن هذا الغياب ليس تفصيلًا بروتوكوليًا بسيطًا؛ بل إشارة سياسية عميقة تحمل أكثر من معنى.

فمن جهة، يعكس هذا الموقف رفض الاحتلال الاعتراف بحماس كطرف سياسي شرعي رغم فشله في كسرها عسكريًا. ومن جهة أخرى، يظهر ثقة المقاومة بنفسها، إذ لم تعد بحاجة إلى توقيع رمزي بعدما فرضت شروطها على الأرض بدماء وصمود لا يُنكرهما أحد.

غير أنَّ أخطر ما في "وثيقة السلام" بشرم الشيخ ليس فقط غياب طرفي الصراع؛ بل ما يترتب على ذلك من هشاشة الالتزام؛ ففي غياب توقيع رسمي للطرفين، يظل الاتفاق أقرب إلى تفاهم ميداني مُؤقت منه إلى هدنة مُلزمة.

وهذا يمنح الاحتلال مساحة واسعة للمناورة أو التنصل متى شاء، مُتذرِّعًا بأنه لم يلتزم رسميًا بشيء من بنود هذه الوثيقة.

أما الوسطاء، رغم ثقلهم السياسي، فلا يملكون سوى أدوات الضغط الدبلوماسي والضمانات اللفظية، وهي أدوات محدودة أمام حكومةٍ يرأسها مجرم حرب مثل نتنياهو، يعيش تحت ضغط الملفات القضائية، ويستمد بقاءه من استمرار الحرب أكثر من إنهائها.

وحين يُعلن صراحةً أن "الحرب لم تنتهِ بعد"، فهو لا يرسل تصريحًا عابرًا؛ بل يمهّد لاحتمال العودة إلى الميدان متى احتاج إلى إنعاش صورته أو ترميم ائتلافه.

وعند النظر في تفاصيل الخطة التي رعتها واشنطن، يتضح أن مضمونها لا يقل خطورة عن طريقة توقيعها.

نصّ الخطة ومخرجاتها، يبدو واضحًا أن العديد من بنودها- بحسب ما ورد من البيت الأبيض- تُركّز على مطالب تُشير إلى تفكيك قدرات المقاومة وإجراءات داخلية في غزة، أكثر من بنودٍ تضع آليات رادعة ملزمة للجانب الإسرائيلي.

وهذا يُعيد إلى الواجهة اختلالًا جوهريًا وهو: كيف نتصوّر سلامًا دائمًا إذا كانت المعالجات العملية والالتزامات المكتوبة موجّهة في جانب واحد؟

الخطر هنا أن يظلّ الالتزام الإسرائيلي ذا طابعٍ ظرفيّ أو تفاوضيّ ما لم تُرفَق الخطة بضمانات قابلة للتنفيذ كتوقيع إسرائيلي ملزم، أو آليات عقابية أوتوماتيكية عند الخرق، أو إشراف دولي فعلي على المنافذ والحدود، وربط المساعدات الأمريكية والدولية بشرطية واضحة.

وعليه، فإنَّ أي مسعى حقيقي لمنع «عودة الحرب» يتطلب إعادة توازن بنود الخطة: لا تكفي آليات تقييد المقاومة وحدها؛ بل يجب إدراج فصول خاصة بالمساءلة والردع تجاه من يخرق الاتفاق بغضّ النظر عن هويته.

يزيد المشهد تعقيدًا أنَّ الولايات المتحدة، رغم كونها الراعي الأبرز للاتفاق، لم تُبدِ أي رغبة حقيقية في إعادة إحياء مسار حلّ الدولتين أو ممارسة ضغط فعليّ على الاحتلال لوقف عدوانه، الأمر الذي يجعلها أقرب إلى الوسيط غير النزيه الذي يُحقق رغبات العدو ويغضّ الطرف عن تجاوزاته، ما يضعف فرص أي سلامٍ عادلٍ أو هدنةٍ مستدامة.

هدنة بلا توقيع، وبلا ضمانات حقيقية، لكنها في جوهرها تكشف من جديد أن الاحتلال لا يملك إرادة سلام، وأن المقاومة وحدها من فرضت الهدوء بشروط الصمود لا بشروط الورق.

إنها هدنة تُكتب بالحبر، لكنها تُحفظ بالدم والصمود.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة